سورة التحريم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التحريم)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ}. في سبب نزول هذه السورة روايتان؛ إحداهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوماً إلى بيت زوجه حفصة، فوجدها ذهبت لزيارة أبيها، فبعث إلى جاريته مارية، فقال معها في البيت، فجاءت حفصة، فقالت: يا رسول الله؛ أما كان في نسائك أهون مني، أتفعل هذا في بيتي، وعلى فراشي؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: «أيُرضيك أن أُحَرِّمها»؟ فقالت: نعم، فقال: «إني قد حَرّمتها» زاد ابن عباس: وقال مع ذلك: «والله لا أطؤها أبداً»، ثم قال لها: «لاتُخبري بهذا أحداً، وأُبشرك أنَّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي» ثم إنِّ حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها، وكانتا مصادقتين، ولم ترَ في إفشائها حَرَجاً، واستكتمتها، فأوحى الله إلى نبيه بذلك. ورُوي أنه عليه السلام طلَّق حفصة، واعتزل نساءه، فمكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية، فنزل جبريلُ، وأمره برَدِّها، وقال له: إنها صوّامة قوّامة، وإنها من نسائك في الجنة، فردَّها.
والرواية الثانية: أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش، فتسقيه عسلاً، فاتفقت عائشةُ وحفصة وسودة على أن تقول له مَن دنا منهن: أكلتَ مغافير، وهو ضمغ العُرفُط، وهو حلو كريه الريح، ففعل ذلك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا، ولكني شربتُ عسلاً»، فقُلن له: جَرَست نحلُه العُرفُط أي: أكلت، ويقال للنحل: جراس، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أشربه أبداً»، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب، فقالت: ألاَ أسقيك من ذلك العسل؟ فقال: «لا حاجة لي به» فنزلت الآية عتاباً له على أن ضيَّق على نفسه تحريم الجارية والعسل. والرواية الأولى أشهر عند المفسرين والثانية خرّجها البخاري في صحيحه.
فإن قلتَ: لِمَ عاتبه اللهُ على هذا التحريم، ولم يعاتب يعقوبَ على تحريم لحوم الإبل على ما ذكر في سورة آل عمران؟ قلتُ: رتبة نبينا عليه الصلاة والسلام أرفع في المحبة والاعتناء، فلم يرضَ منه أن يُضيّق على نفسه، أرأيت إن كان لك ولد تُحبه، ووسعتَ عليه، ثم أراد أن يُضيّق على نفسه، فإنك لا ترضى له ذلك، محبةً فيه، وشفقة عليه. وانظر تفسير ابن عرفة.
قال ابن جزي: ولنتكلم على فقه التحريم: فأمّا تحريم الطعام والمال وسائر الاشياء ما عدا النساء فلا يلزم، ولا شيء عليه فيه عند مالك، وأوجب عليه أبو حنيفة كفارة اليمين، وأمّا تحريم الأَمة فإن نوى به العتق لزم، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم، وكان حكمه ما ذكرناه في الطعام، وأمَا تحريم الزوجة، فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة، فقال أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم: إنما يلزم فيه كفارة يمين. اهـ.
قلت: وظاهره: سواء قال لها: أنتِ حرام، أو حلف بالحرام واحداً أو ثلاثاً، وسواء كان منجّزاً أومعلّقاً، كما إذا قال: كل امرأة تزوجتُها عليكِ فهي حرام، مثلاً، فلا يلزم من ذلك شيء على قول هؤلاء السادات رضي الله عنهم. ثم قال: وقال مالك في المشهور عنه: هي ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غيرها، وقال ابن الماجشون: هي ثلاث في الوجهين، ورُوي عن مالك: أنها طلقة بائنة قلتُ: وبهذا جرى العمل اليوم وقيل: رجعية. اهـ.
{تبتغي مَرْضَاتَ أزواجِك}: حال، أو استئناف مُبيّن للحال الداعي، أي: تطلب رضا أزواجك بالتضييق على نفسك، والمراد: رضا حفصة، وهذا يُؤيد أنها نزلت في تحريم الجارية، وأمّا تحريم العسل فلم يقصد به رضا أزواجه، وإنما تركه لرائحته. {واللهُ غفور} أي: غفور لك ما كان تركه أولى من الصدع بالحق من غير مبالاة بأحدٍ، ولا تُضيّق على نفسك، {رحيم} بك، حيث وسّع عليك، ولم يرضَ لك أن تُضيق على نفسك. قال القشيري: ظاهرُ هذا الخطاب عتابٌ على كونه حَرَّمَ على نفسه ما أحلّه اللهُ لمراعاة قلب امرأته، والإشارة فيه: وجوب تقديم حق الله على كل شيء في كل وقت. ثم قال تعالى، عنايةً بأمره: {قد فرض اللهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانكم} وتجاوزاً عنه بما كان تركه أولى. اهـ.
والحاصل: أنه تعالى غفر له ميله للسِّوى سهواً، والسهو قهرية الحق تعالى، قهر بها عبادَه ليتميّز ضعف العبودية من قوة الربوبية، وهو ليس بنقصٍ في حق البشر، لكنه لمّا كان في الغالب لا يحصل إلاَّ مع عدم العزم عُدَّ تفريطاً وهفوة، كما قال تعالى في حق آدم: {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]، فالمغفرة في الحقيقة، وطلب التوبة من السهو، إنما هو لقلة العزم وعدم الحزم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، ولا تصغ بأذنك إلى ما قاله الزمخشري ومَن تبعه من كون ما فعله عليه السلام زلة، حيث حرّم ما أحلّ الله، فإنه تجاسر على منصب النبوة، وقلة أدب. وقوله تعالى: {ما أحلّ الله لك} زيادة {لك} تَرُدّ ما زعمه الزمخشري، ولو كان كما قال لقال له: لِم تحرم ما أحلّ الله.
ثم قال تعالى: {قد فَرَضَ اللهُ لكم تَحِلَّةَ أَيمانكم} أي: شرع لكم تحليلها، وهو حل ما عقده بالكفَّارة، أو بالاستثناء متصلاً، والأول هو المراد هنا، وهل كفَّر عليه الصلاة والسلام؟ قال مقاتل: أعتق رقبةً، وقال الحسن: لم يُكفِّر؛ لأنه مغفور له. قال بعضهم: هذه التحلة إنما هي لليمين المقرونة بالتحريم، وقال بعضهم: بل هي لنفس التحريم، وبه تمسّك أبو حنيفة في تحريم الحلال، فأوجب كفارةَ اليمين.
{واللهُ مولاكم} أي: سيدكم ومتولي أمورَكم، فلا يُحب ما ضيّق عليكم. قال في الحاشية الفاسية: ومَن تأمّل هذه السورة لاح له منزلةَ حبيب الله عند الله، وحقق معنى قول عائشة: يا رسول الله؛ ما أرى ربك إلاّ يُسارع في هواك الحديث متفق على صحته ه {وهو العليمُ} بما يُصلحكم، فيشرعه لكم، {الحكيمُ} المتقن في أفعاله وأحكامه، فلا يأمركم ولا ينهاكم ألاَّ بما تقتضيه الحكمة البالغة.
الإشارة: هذا العتاب يتوجه لكل مَن سبقت له عند الله عناية وزلفى، إذا ضَيّق على نفسه فيما أحلّ اللهُ له، فلا يرضى منه ذلك، محبةً فيه، وقد صدر مني مثل هذا زمان الوباء، فحلفت لبعض أزواجي: أني لا أتزوج عليها، وسبب ذلك أنها كانت مصارِمة لي، في غاية الغضب والقطيعة، وقد كان غلب على ظني الموت، لِما رأيتُ من الازدحام عليه، فخفتُ أن نموت متقاطعَين، فلمّا حلفتُ لها رأى بعض الفقراء من أصحابنا: أنه يقرأ عليّ أو معي: {يا أيها النبي لِمَ تُحرم...} إلخ السورة، ففهمت الإشارة على أنّ اليمين لا تلزم، والله أعلم، لأنّ بساط اليمين كان غلبة ظن الموت، فلما تخلّف انحل اليمين، كقضية الرجل الذي وجد الزحام على اللحم، فحلف لا يشتري لحماً أبداً، ثم وجد الفراغ، فقال مالك: لا يلزمه شيء. اهـ.
وقال الورتجبي: أدب نبيه عليه الصلاة والسلام ألاَّ يستبد برأيه، ويبتع ما يُوحى إليه. اهـ. وجعل القشيري النبيَّ إشارة إلى القلب، أي: يا أيها القلب المتوجِّه لِمَ تُحرم ما أحلّ الله من حلاوة الشهود، تبتغي مرضاة نفسك وحظوظها، فتتبع هواها، وتترخّص في مباحات الشريعة، وهي تحجب عن أسرار الحقيقة، أو: لِمَ تُحرِّم ما أحلّ الله من الاستغراق في سُكر بحر الحقيقة، تبتغي مرضاة بقاء نفسك، والشعور بوجودها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لي وقت لا يَسعني فيه غير ربي» وكان يقول لعائشة حين يغلب عليه السُكْر والاضمحلال في الحق: «كلميني حركيني يا حميراء» وكذلك القلب إذا غلب عليه الوجد، وخاف من الاصطلام، أو مِن مَحق البشرية، يطلب مَن يبرد عليه مِن نفسه أو مِن غيره، وقد سَمِعْتُ مِن شيخ شيخنا رضي الله عنه أنه قال: كان يغلب عَلَيَّ الوجد والسكر، فكنت أذهبُ إلى مجالسة العوام ليبُرد عليّ الحال، خوفاً من الاصطلام أو المحق، وذلك بعد وفاة شيخه.
وقوله تعالى: {والله غفور رحيم} أي: فلا يؤاخذ العبدَ بهذا الميل اليسير إلى الحس، دواء لنفسه، قد فرض اللهُ لكم تحلةَ أيمانكم، أي: الميل اليسير إلى الرفق بالنفس؛ لأنها مطية القلب، بمجاهدتها يصل إلى كعبة الوصول، وهي حضرة الرب. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذ أَسَرَّ} أي: واذكر أيها السامع حين أَسَرَّ {النبيُّ إِلى بعض أزواجه} يعني حفصة {حديثاً}؛ حديث تحريم مارية، أو العسل، أو إمامة الشيخين، {فلما نَبَّأَتْ به} أي: أخبرت حفصةُ عائشةَ بالحديث وأفشته، فحذف المفعول، وهو عائشة، {وأظْهَرَه اللهُ عليه} أي: أطلع اللهُ تعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام على إفشاء حفصة على لسان جبريل عليه السلام، أو: أظهر الله عليه الحديث، من الظهور، {عَرَّفَ بعضَه} أي: عرَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم حفصةَ بعض الحديث الذي أفشته، قيل: هو حديث الإمامة، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: «ألم أقل لك اكتمي عليّ»؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما ملكتُ نفسي فرحاً بالكرامة التي خَصَّ اللهُ تعالى بها أباها.
{وأَعْرَضَ عن بعضٍ} فلم يُخبرها تكرُّماً. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن: ما استقصى كريم قط. وقرأ الكسائي: {عَرَف} بالتخفيف، أي: جازى عليه، من قولك للمسيء: لأعْرِفَنَّ لك ما فعلت، أي: لأجازينَّك عليه، فاجازاها عليه السلام بأن طلَّقها، وآلى من نسائه شهراً، وقعد في مشربة مارية حتى نزلت آية التخيير، وقيل: هَمَّ بطلاقها، فقال له جبريل: لا تُطلِّقها، فإنها صوّامة قوّامة. اهـ. قيل: المعرّف: حديث الإمامة، والمعرَض عنه: حديث مارية. {فلما نَبَّأها به} أي: أخبر صلى الله عليه وسلم حفصةَ بما عرفه من الحديث، قالت حفصة للنبي عليه السلام: {مَن أنبأكَ هذا قال نبأنيَ العليمُ الخبيرُ} الذي لا تخفى عليه خافية.
{إِن تتوبا إِلى الله}، الخطاب لحفصة وعائشة، على الالتفات للمبالغة في العتاب، {فقد صَغَتْ قُلوبُكما}؛ مالت عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن حُب ما يُحبه، وكراهة ما يكرهه، وكان عليه الصلاة والسلام شقَّ عليه تحريم مارية وكَرِهَه، وهما فرحا بذلك. وجواب الشرط: محذوف، أي: إن تتوبا إلى الله فهو الواجب، فقد زالت قلوبكما عن الحق، أو: تُقبلْ توبتكما، أو هو: {فقد صغت} أي: إن تتوبا زاغب قلوبكما فاستوجبتما التوبة، أو: فقد كان منكما ما يقضي أن يُتاب منه. قال ابن عطية: وهذا الجواب للشرط، وهو متقدم في المعنى، وإنما نزلت جواباً في اللفظ. اهـ. وقُرىء {زاغت} من الزيغ.
{وإِن تَظَاهرا عليه} أي: تتعاونا عليه بما يسوؤه، من الإفراط في الغيرة، وإفشاء سرّه، والفرح بتحريم مارية، {فإِنَّ اللهَ هو مولاه}؛ وليُّه وناصره، وزيادة {هو} إيذان: أنّه يتولّى ذلك بذاته بلا واسطة، {وجبريلُ} أيضاً وليّه، الذي هو رئيس الملائكة المقرّبين، {وصالحُ المؤمنين} أي: ومَن صلح مِن المؤمنين، أي: كل مَن آمن وعمل صالحاً، وقيل: مَن برىء مِن النفاق، وقيل: الصحابة جملة، وقال ابن عباس: أبو بكر وعمر، ورُوي مرفوعاً، وبه قال عكرمة ومقاتل، وهو اللائق؛ لتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام، فإنه جمع بين التظاهر المعنوي والتظاهر الحسي، فجبريل ظاهَره عليه السلام بالتأييدات الإلهية، وهما وزيراه وظهيراه في أمور الرسالة، وتمشية أحكامها الظاهرة، ولأنَّ تظاهرهما له صلى الله عليه وسلم أشد تأثيراً في قلوب ينتيْهما، وتوهيناً في حقهما، فكانا حقيقا بالذكر، بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين، كما هو المشهور.
قاله أبو السعود.
{والملائكةُ} مع تكاثر عددهم وامتلاء السموات من جموعهم {بعد ذلك} أي: بعد نصرةِ الله عزّ وجل، وناموسه الأعظم، وصالح المؤمنين، {ظهيراً} أي: فوْج ظهير مُعاون له، كأنهم يد واحدة على مَن يعاديه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظُهراؤه؟ ولمّا كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، قال: {بعد ذلك} تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم.
{عسى ربُّه إِن طَلَّقكُنَّ أن يُبْدِلَه} بالتخفيف والتشديد للتكثير، أي: يعطيه اللهُ تعالى بدلكن {أزواجاً خيراً منكن}، قال النسفي: فإن قلتَ: كيف تكون المبدّلات خيراً منهنَ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين؟ قلتُ: إذا طلّقهنّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهنّ إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن. اهـ. وأجاب أبو السعود: بأنّ ما عُلّق بما لم يقع لا يجب وقوعه. اهـ. وليس فيه ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُطلِّق حفصة، فإنّ تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة.
ثم وصف المبدَلات بقوله: {مُسلماتٍ مؤمناتٍ} أي: مُقرّات مخلصات، أو: منقادات مصدّقات، {قانتاتٍ}؛ طائعات، فالقنوت: هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله، {تائباتٍ} من الذنوب {عابداتٍ}؛ متعبدات متذللات، {سائحاتٍ}؛ صائمات، وقيل للصائم: سائح؛ لأنَّ السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يُطعمه، فشبّه به الصائم في إمساكه إلى وقت إفطاره، أو: مهاجرات. قال زيد بن أسلم: لم يكن في هذه الأمة سياحة إلاَّ الهجرة، {ثيباتٍ وأبكاراً}، إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار، دون سائر الصفات؛ لأنهما صفتان متباينتان، وعَطْف الأبكار على الثيبات من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولاَ كَبِيرَةً...} [التوبة: 121]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: توجه العتاب له صلى الله عليه وسلم مرتين في تحريم الجارية، وفي إخفائه لذلك، إذ فيه بعض مراقبة الخلق، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق، فهذا قريب من قوله تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أّحَقُّ أَن تخشاه} [الأحزاب: 37]، ففيه من التصوُّف: أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى، أو كالهباء في الهواء، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر»
إذا ليس بيدهم نفع ولا ضر.
وإشارة الآية على ما قال القشيري: وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه، وهي النفس والهوى، حديث المخالفة، على طريق «شاوروهنّ وخالِفوهنّ» فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض، أي: عاتبهما على البعض، وسامحهما في الآخر، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى، قالت: مَن أنبأك هذا.. إلخ، إن تتوبا إلى الله، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات، فإنَّ الله هو مولاه، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية، من التأييدات والواردات، عسى ربه إن طلقكن وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة، ونفوساً مطمئنة، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب، وبحار التوحيد، ثيبات، أي: تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق.


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا قُو أنفسَكم} أي: نَجُّوها من النار، بترك المعاصي وفعل الطاعات، {وأهليكم} بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم، أو بان تُعلِّموهم وتُرشدوهم. قال القشيري: أظهٍروا من أنفسكم الطاعات ليتعلموا منكم ويقتادوا بأفعالكم. اهـ. وفي الحديث: «رحِم الله امرءاً قال: يا أهلاه، صلاتَكم صيامَكم مسْكينَكم، يتيمَكم» أي: الزموا ما ينفعكم، فمَن له أهل وأهملهم من التعلُّم والإرشاد عُوتب عليهم، أي: احملوهم على الطاعة، لتَقُوهُمْ {ناراً وقُودُهَا الناسُ والحجارةُ} أي: نوعاً من النار لا تتّقد إلاّ بالناس والحجارةن كما تتّقد غيرها بالحطب. قال ابن عباس: هي حجارة الكبريت، فهي أشد الأشياء حرًّا. {عليها ملائكةٌ} تلي أمرها والتعذيبَ بها، وهي الزبانية، {غِلاظٌ شِدادٌ}؛ غلاظُ الأقوال، شِدادُ الأحوال، أو: غلاظُ الخلْق، شِداد الخُلُق، أقوياءُ على الأفعال الشديدة، لم يخلق اللهُ فيهم رحمة، {لا يَعْصُون اللهَ ما أَمَرَهم} أي: لا يعصون أمره، فهو بدل اشتمال من {الله} أو: فيما أمرهم، على نزع الخافض {ويفعلون ما يؤمرون} من غير تراخ ولاتثاقل، وليست الجملتان في معنى واحد؛ إذ معنى الأولى: أنهم يمتثلون أمره ويلتزمونها، ومعنى الثانية: أنهم يُؤدون ما يُؤمرون به، ولا يتثاقلون عنه ولا يتوَانون فيه.
ويُقال للكفرة يوم القيامة عند دخولهم النار: {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليومَ} إذ لا ينفعكم عذركم؛ حيث فرَّطتم في الدنيا، {إِنما تُجْزَون} اليوم {ما كنتم تعملون} في الدنيا من الكفر والمعاصي، بعدما نُهيتُم عنها، وأُمرتم بالإيمان والطاعة، فلا عُذر لكم قطعاً.
الإشارة: قُوا أنفسكم نارَ الحجبة والقطيعة، بتخليتها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، ليلحقوا بكم في درجاكم. ونار القطيعة وقودها الناس، أي: عامة الناس والقلوب القاسية، عليها ملائكة غِلاظ شِداد، وهم القواطع القهرية، فمَن كفر بطريق الخصوصية لا ينفعه يوم القيامة اعتذاره، حين يسقط عن درجة المقرَّبين الأبرار وبالله التوفيق.

1 | 2